د.جمال نصار
تحدثت في المقال السابق عن المجال الفكري لدى الليبرالية، وفي هذا المقال نتحدث عن المجالين السياسي والاقتصادي، حتى نتعرف على الأبعاد المختلفة لها:
ثانيا ـ المجال السياسي: اقترنت النظم السياسية الغربية بأفكار الليبرالية وقيمها، وهي نظم دستورية حيث تحد من سلطة الحكومة، وتحافظ على الحريات المدنية، ومن أبرز المعالم السياسية للفكر الليبرالي نظرية العقد الاجتماعي، باعتبارها النظرية السياسية في تكوين الدولة وعلاقتها بحقوق الأفراد، وفصل السلطات باعتباره، أهم ضمانات الحقوق الفردية، وحدود سلطة المجتمع على الأفراد، وحرية التعبير.
فالحرية الفردية ـ إذن ـ تشكل الأساس المشترك المتفق عليه في الفكر الليبرالي، ومن ثم تُعدّ علاقة الفرد بالدولة أو المجتمع قضية محورية وشائكة في الوقت نفسه، حصل التوافق على أصلها، وتعددت المنطلقات في تفاصيلها. ويؤكد هذا المعنى جون سيتوارت مل بقوله: “ولا تزال مسألة اهتداء إلى الحد الفاصل، وإلى طريقة التوفيق بين استقلال الفرد وسلطة المجتمع من أعوص المشاكل”.
وتعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه، وهي نوع من التطبيق العملي للفكر الليبرالي، “فنقطة البدء في الفكر الليبرالي هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم، ولكن نقطة البدء هو أنه فكر فردي، يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة.
ولم تظهر الليبرالية بوصفها مذهبا سياسيّا قبل القرن التاسع عشر، ولكنها قامت بوصفها أيدلوجية على أفكار ونظريات تنامت قبل ثلاثة قرون، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوروبا، الذي حلّ محله المجتمع الرأسمالي، أو مجتمع السوق الحر، كما عبّر عن ذلك فوكوياما.
وانتقد الليبراليون الامتيازات السياسية والاقتصادية لدى ملاك الأراضي، والنظام الإقطاعي الظالم، حيث كان الوضع الاجتماعي يحدد حسب الموْلد، كما ساندوا الحركات السياسية التي تنادي بحرية الضمير في الدين، وتشكك في السلطة المستقرة للكنيسة.
وتعود علاقة الفرد بالسلطة في الفكر الليبرالي، إلى ما يُعرف بالحقوق الطبيعية السابقة للدولة والسلطة، التي تفترض أن الناس كانوا في الأزل أحرارا دون سلطة تحد من رغباتهم أو قانونا يُقيّد شيئا من حرياتهم، حيث كان قانون الطبيعة كافيا لتنظيم شؤون الناس وطبيعة العلاقة فيما بينهم. وبسبب خوفهم من الوقوع في الفوضى، قادهم إلى البحث عن أمر ينظم حياتهم، ويحفظ لهم حرياتهم، فكانت نظرية العقد الاجتماعي التي وضعها هوبز.
إذن يمكن القول إن الليبرالية السياسية تعني:
ـ أن الأفراد هم أساس القانون والمجتمع، وأن المجتمع ومؤسساته قامت من أجل الوفاء بأهداف الفرد. ومن ثمّ لا يجوز للمجتمع أو الدولة المساس بحريات الأفراد تحت أي مسوغ، باستثناء ما كان من قبيل حماية المجتمع نفسه من الفرد.
ـ وأنها نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس، هي: (العلمانية)، بمعنى فصل الدين عن الدولة، و(الديمقراطية)، بمعنى التعددية والحزبية والنقابية والنظام الانتخابي، و(الحرية الفردية)، بمعنى كفالة حرية الأفراد.
ـ لا تعترف بالهيمنة المطلقة للقوانين والأديان، وإنما تعترف بهيمنة تلك القوانين والأديان، ما دامت تحترم جوهر الفلسفة الليبرالية القائمة على الحرية الشخصية، حتى لو اصطدمت تلك الحرية بالثوابت المطلقة للدين.
ـ تقوم الليبرالية السياسية على الفصل بين السياسي والأخلاقي، فليس لمنظومة الأخلاق والقيم مكان في الرؤية السياسية الليبرالية، وإنما هي قائمة على النفعية، كما عبر عن ذلك “جون ستيوارت مل” في أكثر من موضع في أثناء حديثه عن الحرية الليبرالية.
تعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه، وهي نوع من التطبيق العملي للفكر الليبرالي، “فنقطة البدء في الفكر الليبرالي، هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم، ولكن نقطة البدء، هو أنه فكر فردي يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد، التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة.
ثالثا ـ المجال الاقتصادي: الليبرالية الاقتصادية: “مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى يقال غالبا ليبرالية اقتصادية”.
وهي ذلك النوع من الليبرالية الذي ينظر إلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج على أنه يوفر أكبر قدر من الحرية لأفراد المجتمع، ويضمن لهم المساواة بفعل آليات السوق المتمثلة في توازن العرض والطلب والأسعار؛ ومن ثم تذهب الليبرالية الاقتصادية إلى أن الأفراد إذا تُركوا لشأنهم، وإذا ما أعطوا حرية الإنتاج والبيع والشراء تعاظمت ثروة المجتمع.
وأبرز النظم الاقتصادية الليبرالية هو نظام “الرأسمالية” الذي رتّب أفكاره عالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم).
ويدخل في الحرية التي يطالب بها الليبراليون حرية حركة المال والتجارة، وحرية العمل وحرية التعاقد، وحرية ممارسة أي مهنة أو نشاط اقتصادي، آخذا من الشعار الشهير للثورة الفرنسية “دعه يعمل دعه يمر”، وأكدت الليبرالية الاقتصادية المنافسة الحرة والتجارة الحرة، والبنوك الحرة، وبضرورة وجود معدل تنافسي للفائدة، وإزالة العوائق القانونية أمام التجارة، ووقف المزايا التي تمنحها الحكومة مثل الدعم والاحتكار. وللعامل الحرية في العمل أو الترك كما لصاحب رأس المال الحرية المطلقة في توظيف العدد الذي يريد بالأجرة التي يريد.
والليبرالية ترى أن الرغبة في الحصول على الربح هي العامل المؤثر في حركة النشاط الاقتصادي، وأن الفرد حين يعمل على تحقيق مصلحته الفردية، إنما يحقق في الوقت نفسه مصالح المجتمع كله.
أما دور الدولة في هذا الفكر فيبقى في حدود وظيفتها الطبيعية، وهي حراسة القانون الطبيعي من أية محاولة لتعويق فعاليته، وذلك بأن توفر للناس في المجتمع الأمن الخارجي، والأمن الداخلي، وتنفذ ما يصل إليه الناس بإرادتهم الحرة.
وقد عبّر آدم سميث ـ أبو الليبرالية الاقتصادية ـ عن فكر الليبرالية، وعن وظيفة اليد الخفية، التي تتلخص فكرتها، في أن تطور المجتمع يحتاج إلى تمكين الفرد من مزاولة أقصى درجات حريته في المنافسة، وأن البقاء للأصلح والأقوى.
وقد مرت الليبرالية الاقتصادية بتطورات عدة، يمكن إجمالها في ثلاث مراحل أساسية، هي:
المرحلة الأولى: مرحلة الليبرالية الأولى التقليدية، أو الكلاسيكية، التي امتدت من منتصف القرن الثامن عشر (عصر التنوير) إلى أزمة الكساد العالمي في العام 1929م، وتُعدّ هذه المرحلة مرحلة الحرية الاقتصادية، والدولة الحيادية غير المتداخلة في أنظمة السوق (الدولة الحارسة). ومن أبرز شخصيات هذه المرحلة: آدم سميث (1723ـ 1790)، وديفيد ريكاردو (1772 ـ 1823)، وجيرمي بنتام (1784 ـ 1832)، وتوماس مالتوس (1766 ـ 1834).
المرحلة الثانية: مرحلة الليبرالية المنظمة (الليبرالية الاجتماعية المعاصرة) الممتدة من سنة 1929 حتى بداية السبعينيات في القرن العشرين، وفي هذه المرحلة تدخلت الدولة في النشاط الاقتصادي لإحداث توازن بين العرض والطلب، وبدأ الليبراليون بدعم الفكرة القائلة بأنه باستطاعة الحكومة تعزيز حرية الفرد إيجابيا عبر التدخل المنظم في النظام الاقتصادي، ويعتبر جون ماينارد كنز (1883 ـ 1946) من أشهر روادها.
المرحلة الثالثة: الليبرالية الجديدة، أو النيوليبرالية، التي بدأت في عصر السبعينيات من القرن العشرين، وهي العودة إلى المفاهيم الأولى لليبرالية التقليدية، من حيث إعادة الاعتبار إلى حرية الأسواق والحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق المبادرة الفردية لرأس المال وتحريره من كل قيد، وإلغاء الملكيات العامة، ووضعها تحت تصرف رأس المال الخاص فيما سُمي بالخصخصة، ومن أبرز دعاة هذا التيار: فريدريك فون هايك (1899-1992)، وريمون آرون (1905 ـ 1983)، وميلتون فريدمان (1912 ـ 2006)، وتتبناها حاليا المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وإذا كانت الليبرالية الاقتصادية، فجّرت إمكانيات هائلة للثروة الصناعية، وحققت تقدما في قوى الإنتاج والدخل كما حققت التراكم الرأسمالي، إلا أنها أنتجت شرورا اجتماعية عديدة، منها: استغلال العمال والنساء والأطفال، وإشاعة البطالة نتيجة المنافسة الشديدة، والتفاوت الكبير في الثروات والدخول، وهو ما نجم عنه أزمات اقتصادية متوالية، والتطاحن الضاري على الأسواق الخارجية ومنابع المواد الأولية، بالإضافة إلى انتشار الاستعمار في جميع الاتجاهات على حساب السكان الأصليين، ونهب ثروات العالم المستضعف، كما قضت على المنافسة العادلة، وأنتجت الاحتكارات الكبرى.
المصدر : arabi21