يحسب الكثيرون أن الإسلام، والأديان عامة، لا شأن لها بالديمقراطية، فكلها تقوم على أوامر الله تعالى ونواهيه، والأحكام التى سنها فى كتبه.. إلاَّ أن الأستاذ العقاد أخذ على عاتقه إثبات أن للديمقراطية مكانًا فى الإسلام فأصدر عام 1952 كتابًا بعنوان «الديمقراطية فى الإسلام»، قال فى تقديمه له إن الإسلام أنشأ فكرة الديمقراطية لأول مرة فى تاريخ العالم، وأنه قد دعاه إلى هذا البحث أن الأمم الإسلامية فى هذا العصر آخذةٌ فى النهوض والتقدم، وأنها فى حاجة فى هذه المرحلة لأن تعلم أن الحرية والإيمان متفقان.
فالحرية بلا إيمان، أشبه بحركة آلية حيوانية، وأقرب إلى الفوضى منها إلى الجهد الصالح والعمل المسدد إلى غايته.
ومن الخير للأمم الإسلامية أن تذكر أن الحرية عندها ليست من الإيمان، بل هى إيمان صادق، وليست الغاية منها مجرد مصلحة أو أخذ بنظام مستعار.
وبعد، فلمن شاء أن يقرأ هذه الصفحات من الوجهة الدينية، فسيراها مطابقة للعقيدة الدينية الحسنى، فى غير شطط ولا جمود.
ولمن شاء أن يقرأها من الوجهة العلمية، فسيرى أن الموضوع كله صالح للعرض على مقاييس العلم وموازينه، ولكن على شريطة أن يفهم «أولا» ما هى المسألة التى تعرض على العلم حين نتكلم عن الديمقراطية فى الإسلام: هل هى شعائر العقيدة وعباداتها ومدلولاتها ؟ وهل هى الاعتقاد كما استقر فى الفطرة ؟ وهل هى الأمم التى دانت بتلك العقيدة من مئات السنين؟ وهل هى الأعمال الجسام التى تمت ببواعث تلك العقيدة ولولاها لما تمت؟ وهل هى أسلوب الوجدان فى تصور الحقائق الدينية والشعور بالغيب المكنون.
يقابل هذه التساؤلات التى يجب فهمها حين الكلام عن الديمقراطية فى الإسلام ـ يقابلها جانب آخر، يصح وصفه بأنه جانب «سلبى» يقابل ما سلف على أنه جانب «إيجابى».
هل نستغنى عند التعرض لتقدير الحياة الدينية لدى أمة من الأمم ـ هل نستغنى عن النظر إلى الإنسان المجرد من الاعتقاد الذى خلا وجدانه من الإيمان؟
وهل نستطيع أن نستبعد من تقديرنا أنه إنسان «غير طبيعى» فى قلقه وارتيابه وسوء ظنه بوجوده؟ وأن اجتماع ملايين من هذا المثال يخلق لنا أمة «غير طبيعية» فى فوضاها وخللها ونقص البواعث التى تتماسك وتترابط بها؟
ثم ما هى الظاهرة العلمية التى يقررها العالم إذا قاس الأمور كلها بهذا المقياس ووزن الأحداث التاريخية والأطوار الإنسانية كلها بهذا الميزان؟
هنا ـ فيما يبدى الأستاذ العقاد ـ حقيقة شاملة لا انفكاك لجزءٍ من أجزائها عن سائرها.. حقيقة حية تنتظم فى أطوائها مئات الملايين من البشر فى عشرات المئات من السنين، وتدخل فيها بواعث الأخلاق والاجتماع والنهوض والتقدم.
فى فصل من هذه الرسالة، يسارع الأستاذ العقاد فيبدى أنه قال فيه إن طريقة الوجدان فى تحصيل الحقائق تثبت تلك الحقائق ولا تبطلها. كما أن أسلوب الحس كأسلوب الوجدان إذا أراد العلم أن يحكم على أسلوب الدلالة فى الحالتين.
فليست صور الوجدان باطلة لأن العلم لا يصفها بوصفها.
وليست ألوان النظر باطلة لأن وصفها فى العلم الطبيعى غير وصفها فى الأحداق والرءوس.
وخلاصة ما تقدم وأراد الأستاذ العقاد بيانه..
أن من شاء قراءة هذه الصفحات من الوجهة الدينية فسيجدها ماثلة أمامه فى غير شطط ولا جمود.
ومن شاء أن يقرأها من الناحية العلمية، فسيرى الموضوع صالحًا للعرض على العلم، شريطة أن يعرف «أولا» ما هى المسألة المعروضة على العلم على ضوء التساؤلات الإيجابية والسلبية سالفة الطرح والبيان.
وأنه بهذا سيتلاقى رجل العلم ورجل الدين، ويستطيع الباحث فى الديمقراطية الإسلامية أن يحسب حسابها بضميره وعقله، وألا يعدد الواقع حين يضع يديه على الأسباب ونتائجها، وما الذى يندرج فى البيان، وما الذى يندرج فى الوجدان.
الديمقراطية. ما هى؟
الديمقراطية تعبير اصطلاحى حديث وإن كان تطبيق مبادئها قد سبق إلى بعض الأنظمة، وكلمة الديمقراطية مركبة من كلمتين باللغة اليونانية معناهما «حكم الشعب».
فما الذى يفهم من حكم الشعب؟
بدايةً يبدو من استعراض جميع الحكومات التى تسمت باسم الديمقراطية فى بلاد اليونان والرومان، أنه لم توجد قط ـ بل ولا يمكن أن توجد ـ الحكومة التى يتولاها الشعب بنفسه، أو ما يُعبر عنه اليوم بالديمقراطية المباشرة.
ومقصد الحكم الديمقراطى وفقًا للتجارب الممكنة بين الأمم، أنه حكم لا يستبد به فرد واحد ولا طبقة واحدة، وأنه غير ضروب الحكم الأوتوقراطية والأرستقراطية والثيوقراطية والأوليجاركية والعسكرية وما إليها.. وعلى ذلك فالتسمية فى الواقع سلبية مؤداها استبعاد ضروب الحكم الأخرى.
وقد يكون صحيحًا القول بأن الحكومة الشعبية هى الحكومة التى يرتضيها الشعب ويطمئن إليها، فيما عدا أن هذا التعبير ناقص من بعض الوجوه.
فقد ارتضت شعوب الأقدمين ـ أو اضطرت ـ لقبول أحكام المستبدين، واطمأنت إليها أو قبلتها على مضض، على أنه كان بعض هؤلاء المستبدين يستعيرون مكانة الأرباب، وصاروا معبودين يخولهم رعاياهم حقوق الأرباب، ويحسبون ظلمهم حقًّا لا محل للاعتراض عليه، ولا شأن ولا فرصة لهم فى الاعتراض أو الانتقاض كشأن المذنبين المعاقبين، ولا يجدون لهم نصيرًا على الشكوى أو من يستنكر مصابهم !
ليس صحيحًا أن الديمقراطية
كانت حكم الشعب!
ليس بالصحيح إذن أن يقال إن الديمقراطية هى حكم الشعب، بمعنى أن يتولى الشعب بنفسه شئون حكومته، وليس صحيحًا أيضًا أن الحكومة الديمقراطية كانت الحكومة التى يرتضيها الشعب ويطمئن إليها.
فما هى الصفة الصحيحة لتمييز الديمقراطية فى عرف الأقدمين؟!
لقد بدأ النظام الديمقراطى فى «اسبرطة» من بلاد اليونان، ولم يبدأ فى أثينا موطن الفلاسفة وأرباب الفكر، وهذه الحقيقة مهمة جدًا لتحديد طبيعة النظام الديمقراطى فى ذلك الزمن القديم، وخلاصته أنه «نظام عملى» قائم على ضرورات الواقع، وليس نظامًا فكريًّا قائمًا على توضيح المبادئ وتمحيص الآراء.
فمتى وأين كانت البداية؟
كانت بداية هذا النظام على يد «ليكرج Lycurgues» فى القرن الثامن قبل الميلاد، وقيل إنه استشار فيه الآلهة بمعبد «دلفى»، وقال له الوحى إنه مأذون فى وضع النظام الذى يرتضيه، وخلاصة نظامه الذى ارتضاه أن يقوم على الحكم ثلاثون زعيمًا منهم ملكان لهما سلطان واسع فى أيام الحرب، ولكن لا يمتازان بسلطان كبير فى أيام السلم بين سائر الزعماء، وكان انتخاب هؤلاء بطريقة توافق زمنهم.
ويقوم الثلاثون المختارون على النظر فى الشرائع ويشرفون على الوظائف، ويعرضون القوانين على الشعب فى ساحته الكبرى ليقر القوانين أو يرفضها ولكن لا يجوز له تنقيحها أو تبديلها، وكان «ليكرج» هو الذى يشرع الشروط التى يؤخذ بها وكلاء الشعب بعد الانتخاب، فكان يلزمهم أن يقسموا ثروتهم بينهم بحيث لا يزيد أحد على الآخر بالملك والمال، وربما نقموا عليه شدته فى شروطه فثاروا عليه ورجموه بالحجارة، ولكنه كان يحتمى منهم بالشعب، وقد حماه بالفعل مرة.
فى أثينا
أما فى أثينا، فكانت حكومة الشعب أمانة فى أيدى أفراد من الحاكمين، يأتمرون بأمر أشهرهم صولون Solon وبزيستراتس Pisistratus وكليستنس Cleisthenes وبركليس Pericles.
وقد ابتدأت حركة الإصلاح على أيديهم بعد ابتدائها فى اسبرطة بأكثر من مائة سنة، وافتتحها صولون بتشريعاته ودساتيره لاتقاء الفتنة وقمع المطامع لأصحاب الأرض والمال، وكان الدستور الأثينى فى أوجه يكل الأمر إلى جماعة فى خمسمائة عضو منتخب ينتخبهم أبناء البلد الأحرار، ويُختار خمسون من كل قبيلة من القبائل العشر، وكل قبيلة تشتمل على السكان فى أماكن شتى ولا تنحصر فى سلالة معينة ولا فى مكان واحد، ويجرى الحكم بالتناوب بين مجموعات كل منها من خمسين عضوًا.
وكان أرسطو لا يرضى عن هذا النوع من الديمقراطية ويحسبه انحدارًا من حكم الكثرة إلى حكم الواحد، وكان أستاذه أفلاطون يرى من قبله أن نظام الوكيل المفوض خطوة بين الملكية المطلقة وحكومة الأشراف ثم الحكومة الشعبية، ثم عدل عن رأيه هذا بعد مراقبته للتجارب، واعتقد أن الوكيل المفوض نتيجة لازمة لغلبة الدهماء والجهلاء.
ويعقب الأستاذ العقاد بأن البادى من هذه الخلاصة السريعة، أن الديمقراطية كانت فى اليونان القديمة من قبيل الإجراءات أو التدبيرات السياسية لاتقاء الفتنة والاستفادة من جهود العامة فى أوقات الحرب على الخصوص، ولم تكن هذه الديمقراطية قائمة على الحقوق الإنسانية أو منظورًا فيها إليها.
ولم يتغير معنى الديمقراطية هذا حين تعرض الفلاسفة للكتابة فى أنواع الحكومات، وكانت المساواة فى كتب الفلاسفة مقصورة على أبناء اليونان دون الغرباء أو الأرقاء! والرعية بمثابة قاصرين بحاجة إلى أوصياء.
مقالة من موقع الشروق نيوز