أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى تصاعد الحديث عن مواجهة سياسية وأيديولوجية كبرى بين معسكرين على المستوى الدولي: الديمقراطية الليبرالية الغربية، التي استطاعت بناء نموذج جذاب لكثير من الشعوب، وكانت في تمدد مستمر منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي؛ والاستبدادية الجديدة، التي تجد تمثيلها الأبرز في النظامين الروسي والصيني، وتحاول خنق كل تطلعات الحرية، سواء داخل حدودها، أو في البلدان التي يصل إليها نفوذها العسكري والسياسي.
أمام هذا الواقع تتصاعد دعوات، في الدول الغربية بشكل خاص، لإنشاء نمط من «الديمقراطية المقاتلة» إذ يجب أن لا تُعتبر الديمقراطية أمراً بديهياً وثابتاً، بل لا بد أن تعي الشعوب الغربية أهمية الدفاع عن القيم الديمقراطية في وجه منتهكيها. وبهذا المعنى فإن أوكرانيا تدافع اليوم عن حريات أوروبا كلها، وإذا سقطت، فيجب أن يكون بقية الأوروبيين على استعداد للقتال من أجل حرياتهم.
في المقابل يحاجج البعض بأن الاحتجاجات، التي اعتبرت موالية للغرب، والديمقراطيات المستجدة في الدول الخارجة من هيمنة الحكومات التوتاليتارية، لم تقدم غالباً نموذجاً إيجابياً عن الديمقراطية الليبرالية. فالحكومات والأنظمة اليمينية في دول مثل بولندا والمجر تُحسب على «المعسكر الغربي» وباتت أعضاء في الاتحاد الأوروبي، الذي من المفترض أن توسيعه كان أحد أهم أسباب قلق المستبدين في موسكو. فيما يُعتبر مقاتلو تنظيمات متطرفة، مثل «كتيبة آزوف» الأوكرانية المُتهمة بالنازية، بل حتى بعض الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا وليبيا، حلفاء للغرب، ومقاتلين لأجل الحرية.
تعقّد هذه الملاحظات الطرح التبسيطي عن صراع الديمقراطية الليبرالية ضد الاستبداد، فعلى ما يبدو تسلّمت جهات، عليها عدد من علامات الاستفهام، راية توسيع النموذج الديمقراطي عالمياً. فيما لا يبدو «الديمقراطيون» الأكثر إخلاصاً وبعداً عن الشبهات مؤهلين لخوض المعارك دفاعاً عن قيمهم. الأهم أن هذه القيم نفسها لم تعد تتمتع بكثير من الوضوح والصفاء. عن ماذا سيدافع أنصار الديمقراطية الليبرالية بالضبط؟ وهل توجد في عصرنا مقومات لصراع أيديولوجي فعلي بين الاستبداد والحرية؟
مقاتلو الديمقراطية
ربما كانت حرب الثمانين عاماً (1568-1648) أو ما يعرف أوروبياً بـ«الانتفاضة الهولندية» من أولى نماذج الحرب لأجل قيم، قد يمكن تسميتها اليوم ديمقراطية ليبرالية، إذ رفضت المقاطعات الهولندية استبداد الملك الإسباني فيليب الثاني، وقاتلت لأجل التسامح الديني والحريات الاجتماعية والسياسية الأساسية، وأسست جمهورية حرة، استمرت حتى نهايات القرن الثامن عشر، ضمنت حقوقاً تمثيلية لكل مواطنيها.
ما حفّز الهولنديين على التمرّد والقتال كان فكرة أساسية عن استقلالية المجتمع تجاه السلطة: لا يحق لحاكم مستبد متعالٍ، حتى لو كان يملك حقاً وراثياً أو دينياً، التنكيل بالناس، وفرض فحوى ما يدور في ضمائرهم، وأسلوب إيمانهم وتعبدّهم وتعبيرهم عن معتقداتهم؛ وأن يستقطع إتاوات من أرزاقهم ونشاطهم الحياتي، دون أن يشركهم في إدارة شؤون دنياهم، وفق رؤاهم وقناعاتهم ومصالحهم. وبالتالي كانت الحرب الطويلة قائمةً على الصراع حول مبدأ الشرعية. «صاحب السيادة» أصبح جمهوراً مستقلاً من المنتجين اجتماعياً وثقافياً، شديد التعدد والتنوع، وليس عاهلاً يختصر بشخصه كل السلطات، أو بالأصح حازت طبقة بورجوازية، كانت ما تزال آنذاك في حالتها الجنينية، حق تمثيل تطلعات ذلك الجمهور المستقل. وهو نمط تكرر في ما بعد، ويمكن رصده خلال القرن الثامن عشر، في الثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني، ومن ثم بدايات الثورة الفرنسية. وبعدها يصعب أن نجد فعلاً ثورياً جديّاً للبورجوازية.
انتقل الفعل الثوري للجمهور المستقل إلى الطبقات الأدنى مع تقدّم الثورة الفرنسية، ومنها جاءت الفئات التي شكّلت عماد التنظيمات المدافعة عن الثورة، مثل «الحرس الوطني». في ما بعد خاض «السان كيلوت» أي فقراء ودهماء باريس، معارك الثورة الأخيرة، وأكثرها جذرية. وطيلة ثورات القرن التاسع عشر في أوروبا، خاصة ثورتي 1830 و1848، نهضت الطبقة العاملة بمهمة الدفاع عن القيم الأساسية للاستقلال الاجتماعي، فيما تنازلت البورجوازية غالباً عنها، ودخلت في تسويات مع السلطات القديمة، في ذلك العصر المضطرب بالمناسبة صدر «البيان الشيوعي».
الديمقراطية المقاتلة إذن ارتبطت تاريخياً بجمهور حيوي، اعتبر أن حرية ضميره ومعتقده لا تكتمل إلا بقدرته على التعبير عنها في الحيز العام، وسرعان ما تطور النقاش في المقاهي والصالونات الثقافية، وهي النموذج الأولي للحيز العام الحديث الذي أنشأته البورجوازية، إلى تداول مفتوح وجامح للأفكار والمرافعات في الساحات العامة، ولم يكن المتداولون يعبّرون فقط عن معتقداتهم الدينية والفكرية، بل أيضاً يطالبون بحقوقهم الاجتماعية والمهنية.. باتوا مواطنين مستقلين عن أي سلطة متعالية، معتبرين أن كل علاقة يدخلونها في الحيز العام يجب أن تكون تعاقدية، أي قائمة على الموافقة والتفاوض، وليس على الخضوع لأولي أمرهم، ومنحهم احتراماً غير مشروط. هنا، وبفضل الفعل الثوري للطبقات الأدنى، تم التمازج المذهل بين الليبرالية والديمقراطية، الذي طبع التاريخ الأوروبي طويلاً.
إلا أن الليبرالية لا تتلازم بالضرورة مع الديمقراطية، كما يؤكد كثير من المختصين بالنظرية السياسية، فمبادئ ليبرالية، مثل العلاقات التعاقدية، واعتبار البشر ذواتاً قانونية متساوية، وفصل السلطات، وحرية التعبير والضمير، قد لا تجد لها مكاناً في ديمقراطيات قائمة على «جماعات عضوية» وحكم أغلبية العامة، والهوية الثقافية والاجتماعية والعرقية الأحادية.
تولّد الديمقراطية بالتأكيد مجموعة من الإقصاءات، يعاني منها فئات وأفراد مستبعدون من تعريف «الشعب»؛ كما أن حماية حريات الأفراد والأقليات وفق الأسلوب الليبرالي، قد يحطم الجماعة السياسية، وهي عماد أي ممارسة ديمقراطية. وحده المبدأ الثوري للجمهور المستقل حافظ على التلازم بين الليبرالية والديمقراطية، وخلق يوماً «ديمقراطية مقاتلة». لكن ماذا تبقى من هذا المبدأ حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية؟
ربما لم تعد الليبرالية ملازمة للديمقراطية في عصرنا، فقد طغت الأولى، بعد أن صارت «نيوليبرالية» على إمكانية تشكيل قول حر للجمهور، معرقلة قيام أي هوية سياسية جمعية، قادرة على التغيير. إنها «ليبرالية» غريبة حقاً، لا تهتم كثيراً ببعض من أعرق قيمها: حرية التعبير، المساواة أمام القانون، حرية البحث الأكاديمي، رفض الرقابة على الإبداع، إلخ.
من يعرفون كل شيء
يبدو أن الجمهور المستقل خطير للغاية على أي «صاحب سيادة» ومهدد لاستقرار أي سلطة، إذا لا يمكن تثبيت تعريفات وهويات محددة؛ والحديث عن «حقيقة» ثابتة ما، سواء كانت دينية أو علمية أو سياسية؛ أو تنفيذ سياسات حيوية محددة فوقياً، تتعلق بنمط حياة السكان وأوضاعهم الصحية ومستوى معيشتهم، ضمن حيز عام مفتوح لفعل الجمهور وسلطته المضادة، ولهذا سعت البورجوازية لإغلاق الحيز العام، وترميم السلطات القديمة.
يمكن القول إن تلازم الديمقراطية والليبرالية عاش حالة إنعاش صناعي في زمن دولة الرفاه الغربية: عُقدت تسوية بين الطبقة العاملة المنظّمة من جهة؛ وأرباب عملها وجهاز الدولة من جهة أخرى، على أساس مبدأ التفاوض الجماعي بين الطرفين، ورغم أن ذلك النموذج اتسم بـ»الأبوية» كما يؤكد كثير من نقّاده اليوم، إلا أنه أمّن الحد الأدنى من حرية التعبير والعلاقات التعاقدية، وتمثيل الجمهور سياسياً، بعد أن صار منضوياً ضمن أجهزة تضمن الاستقرار الاجتماعي، وعلى رأسها النقابات. نُفذت السياسات الحيوية آنذاك بطريقة لا تُغفل تطلعات ومصالح الطبقات الأدنى، لكن تؤمّن تسليمها بالنظام الاجتماعي القائم، ولذلك كانت العائلة، البورجوازية والعمالية، أحد أهم أعمدة دولة الرفاه.
كل هذا لم يعد موجوداً اليوم، وبدلاً من «التفاوض الجماعي» استُبعدت الفئات الأدنى من صياغة القرار العام، لحساب تحكم بيروقراطي/تكنوقراطي، وحلّ مبدأ «الإدارة» عوضاً عن «السياسة» في تسيير الشؤون الاجتماعية. من الصعب أن يصدر أي قرار اليوم في الدول الديمقراطية إلا بعد تقديمه باعتباره «ضرورة» لا بديل عنها، تسندها حقائق مطلقة، لا يخالفها إلا شعبوي أو جاهل. فيما تسيطر منظمات غير حكومية ومؤسسات ثقافية، ذات هرمية تمويلية وإدارية صارمة، على جانب كبير من القول السياسي، بل حتى الحقوقي والفني. موظفو تلك المؤسسات يعرفون كل شيء مسبقاً، ويحددون كل الحقوق وأنماط السلوك المقبولة، ولا داعي لأي جدل في الحيز العام، قد يتسلل إليه الشعبويون والعنصريون.
من سيقاتل؟
ربما لم تعد الليبرالية ملازمة للديمقراطية في عصرنا، فقد طغت الأولى، بعد أن صارت «نيوليبرالية» على إمكانية تشكيل قول حر للجمهور، معرقلة قيام أي هوية سياسية جمعية، قادرة على التغيير. إنها «ليبرالية» غريبة حقاً، لا تهتم كثيراً ببعض من أعرق قيمها: حرية التعبير، المساواة أمام القانون، حرية البحث الأكاديمي، رفض الرقابة على الإبداع، إلخ.
من سيقاتل لأجل نموذج كهذا، ما يزال كثيرون مصرين على تسميته «ديمقراطية ليبرالية»؟ وما القيم التي يمكن أن يرفعها أنصاره بوجه طغاة مثل بوتين؟ ربما كانت هذه من أصعب الأسئلة التي يجب أن يواجهها ليبراليو اليوم.
بهذا المعنى فليس غريباً أن من يقاتل اليوم هم المتطرفون القوميون والدينيون، فلهؤلاء قضايا وقيم فعلية يريدون نصرتها، ويبدو أن مؤسسات التحكم البيروقراطي/التكنوقراطي قادرة على استيعابهم، وإعادة تعويمهم في منظومات سياسية، ليست أيديولوجياً إلا شبحاً باهتاً لما كان يسمى «ديمقراطية ليبرالية».
المصدر : alquds